'حبس النّساء' لروان بنرقية..عندما تكتب قاضية عن عوالم السجن السُفليّة
"هؤلاء السّجينات هنّ بنات الحياة الأحرار، لم يتعالين على التّعالي، واخترن طريق الاعتراف بالخطيئة، ومسلك البؤس والأحذية المثقوبة. أمّا أنا، فقد انحزت إلى الحريّة الممتلئة بغبار الشّرف..."، هكذا اختتمت روان بنرقيّة كتابها "حبس النّساء" الّذي صدر بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان، لتعيدنا بخاتمتها المفتوحة إلى بداية مجموعتها القصصيّة الّتي عالجت المسكوت عنه من مسائل حارقة تهمّ نسوة يقبعن خلف أسوار مختلفة، في عالم قريب منّا لكنّنا لم نفكّر في التأمّل في تفاصيله، إلّا نادراً.
ومنجز بن رقيّة، وهي قاضية تونسيّة شابّة، هو مجموعة قصصيّة من الحجم المتوسّط، تتكوّن من ستّة قصص، الطّريف فيها أنّها على عكس ما برز في هذا الجنس الأدبيّ، مع كبار الكتّاب من أمثال محمد شكري وغيره، فالمجموعة متماسكة ومسترسلة، كأنّ القصص الّمنفصلة في الظّاهر قد رُبطت بخيط لا يكاد يرى إلاّ بتقدّم الأحداث، بوحدة بُنيتيْ المكان والزمان.
الكتاب هو فسحة في عالم سفليّ جدّاً، هناك حيث لا تتجاوز مطالب النّسوة السّجينات سقف العودة إلى "السيفيل" بكلّ ما يحمله لهنّ من وصم مجتمعيّ أو معارك وجوديّة أو صراع طبقيّ.
بعيدًا عن الجنس الأدبي والقصص المشوّقة داخل "حبس النّساء"، يلاحظ المتأمّل في قضاياه طرحاً فلسفيّاً عميقاً في الكتابة يتعلق بمواضيع عديدة أهمّها الحريّة، الأخلاق، الجسد...
ولعبت الكاتبة في النصّ دور صحفيّة تجوب أركان سجن نسويّ، ليس بحثاً عن الحقيقة الصحفيّة أو الفلسفيّة فحسب، بل لتنفض أيضاً الغبار عن تفاصيل قصص كثيرة تراكمت بمفعول التجارب والأزمات التي رمت ببطلاتها من سجن واسع، حرّاسه التشوهات المجتمعيّة الممتدّة، نحو حبس يقتل فيهن كلّ ماهو آسر وناجٍ من محاولات الهيمنة والتسلّط والاستغلال.
الأدب والفنّ عموماً هو، في أحد أبعاده، هو فسحة للنّبش في أعماق الذّوات خدمة لقضيّة إنسانيّة ما، بتعبيرات قد تخرج عن المألوف والكليشيهات المجترّة لتثير فينا الفضول لاكتشاف ما لم نجرّبه، أو لتدفعنا نحو إعادة التّفكير في مفاهيم عديدة، و"حبس النّساء" طرح بأسلوب إبداعيّ تعريفاً جديداً لمفاهيم الحريّة والجريمة والجزاء والشّرف والإفلات من العقاب، التي قد تختلف بين شريحة وأخرى، وفي أحيان كثيرة يكون الجلاّد فيها ضحيّة، والعكس صحيح أيضاً...
برهان اليحياوي