languageFrançais

بعد تغيير المحافظ.. هل يتمّ التخلي عن استقلالية البنك المركزي؟

عيّن رئيس الجمهورية قيس سعيد، يوم الخميس 15 فيفري 2024، فتحي النوري محافظا جديدا للبنك المركزي، خلفا لمروان العباسي الذي انتهت ولايته، وهو تغيير على رأس البنك المركزي يأتي بعد أشهر من الخلافات بين البنك والسلطة التنفيذية بشأن سياسات أسعار الفائدة وتمويل الخزينة ويطرح وفق خبراء تساؤلات حول استقلالية البنك المركزي التي تبقى موضع جدل لم يحسم.

خلفيات التعيين الجديد

أكّد الخبير الاقتصادي عبد الجليل البدوي، لموزاييك، أنّه لم يفهم خلفيات تعيين هذا المحافظ الجديد، مبيّنا أنّ فهم هذه الخلفيات يتطلب البحث عن أسباب التخلي عن مروان العباسي الذي سبقته تصريحات من قبل السلطة التنفيذية مضمونها عدم الرضا عن تمشي البنك خاصة في مستوى استقلاليته ومفهوم هذه الاستقلالية في ظل عدم وجود اقتناع بها.

وتوقع البدوي حصول تغييرات في مستوى دور ومكانة البنك المركزي وعلاقته ببقية المؤسسات بعد التغيير على رأسه.

سياسات نقدية غير متناغمة مع السياسات العمومية 

ويذكر أنّ المدة النيابية للمحافظ السابق مروان العباسي انتهت يوم 16 فيفري 2024 وكان من الممكن التمديد له لمدة 6 أشهر أخرى، إلاّ أنّ هذا لم يحصل خصوصا وأنّ السياسات النقدية للعباسي لا تتناغم مع السياسات العمومية، وفي ظلّ عدم رضا رئيس الدولة قيس سعيد على خيارات السياسة النقدية القائمة على ما يسمى باستقلالية البنك المركزي وفق الخبير الاقتصادي عبد الجليل البدوى. 

كيف سيتم تجاوز هذه المعادلة؟

ووفق عبد الجليل البدوي، فإنّه من الممكن الدفع بشكل أكثر نحو انخراط الاقتصاد الموازي في المنظومة الرسمية. 

هذه الإجراءات، يؤكّد المتحدّث أنّها قد انطلقت من خلال التنصيص على ضرورة مرور المعاملات التجارية التي تتجاوز 5 آلاف دينار بالصكوك البنكية وهو إجراء من شأنه تضييق الخناق على الاقتصاد الموازي الذي يعتمد على المعاملات النقدية (كاش) ويتفادى المرور بالوثائق الرسمية، ومناهضة الانتصاب الفوضوي، وتوفير بدائل من خلال تخصيص أسواق بلدية وفضاءات للتجار. 

كما تتمثل هذه الإجراءات كذلك في التقليص من النشاطات التجارية والخدماتية والصناعية التي كانت تخضع للنظام الجبائي التقديري وإدراجها  في النظام الحقيقي في إطار إصلاح هذا النظام الذي طالب العديد من المختصين بإصلاحه سيما وأنّ العديد من القطاعات التجارية والخدماتية تُحقّق مرابيح سنوية كبيرة وتصرح لمصالح الضرائب "بالفتات".

وتنتفع العديد من القطاعات الاقتصادية في تونس بهذا النظام الجبائي التقديري دون أن تنتفع في المقابل البلاد بعائدات مالية تعدّل نسبيا الكفة وتخفف الضغط الجبائي المسلط على القطاعات الاقتصادية المنضوية تحت النظام الجبائي الحقيقي.

وأكّد عبد الجليل البدوى أنّ هذه الإجراءات من شأنها التقليص من الخسائر الناجمة عن عدم انخراط الاقتصاد الموازي في المنظومة الرسميّة، وهي خيارات قديمة من الضروري ضمان استمراريتها في ظلّ الوفاق الوطني حول ضرورة مقاومة الاقتصاد الموازي نظرا لانعكاساته السلبية في جميع المجالات وخاصة الجبائية والمساهمات الاجتماعية والإضرار بالصحة والمنافسة غير الشريفة التي أدت إلى غلق عديد المؤسسات في القطاع المنظم.

ووفق الخبير الاقتصادي عبد الجليل البدوى، فإنّ أيّ محافظ بنك مركزي مطالب بالانخراط ضمن هذا التوجّه وتدعيمه للتقليص من هذا الانخراط الموازي. 

المحافظة على استقرار الأسعار وإهمال التنمية 

وتحدث البدوي عن دور وأهداف البنك المركزي، مبيّنا أنّ دوره انحصر في الحفاظ على استقرار الأسعار واهمل كلّ الأهداف المتعلقة بالتنمية وانخراط في توجهات النيوليبرالية المتوحشة والتي يمكن حتى وصفها بالمذلة، وفق تعبيره. 

وأضاف البدوي أن البنك الفيدرالي الأمريكي لم ينحصر دوره في الحفاظ على استقرار الأسعار بل أدرج ضرورة مساندة الأهداف التنموية ومقاومة البطالة والتنسيق مع السياسات العمومية في إطار التكامل وهذا الأمر غير منصوص عليه في النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي. 

"حتى الدول المصنعة والمتقدمة لم تتخلى بنوكها المركزية عن قضايا التنمية في حين تم حصر دور البنك المركزي التونسي في المحافظة على استقرار الأسعار وقيمة الدينار وهو ما يستوجب إعادة النظر في دور البنك المركزي وأهداف السياسات العمومية التي تركز بصفة مطلقة على أولوية مقاومة التضخم وأهملت مسألة الانتعاش الاقتصادي وهو ما جعل السياسة النقدية متشددة ومهملة للبعد التنموي ومركزة على قضية التضخم الذي يشهد أخطاء مستوى التشخيص"، يقول عبد الجليل البدوى. 

تضخم خارجي

وحسب عبد الجليل البدوي، فإنّ التضخم في تونس خارجي بالأساس وناتج عن قلة العرض لا كثرة الطلب وهو ما يستدعي إعادة النظر في القضايا الكبرى ودور البنك المركزي في المرحلة الحالية وأولوياته، أما مواصلة مقاومة التضخم أو ترك سعر الصرف يتدهور ومواصلة سياسات التشدد في إسناد القروض وهي مسألة ذات أولوية قصوى ثم يتم التوجه نحو مسألة الرقمنة التي أصبحت توجّها عالميا.

استقلالية هدفها تفكيك الدولة التونسية 

وحسب عبد الجليل البدوى، فإنّ استقلالية البنك المركزي تندرج ضمن إشكالية عامة كبرى، مبيّنا أنّ التوجه النيوليبرالي لصندوق النقد الدولي ومواصفاته لحلحلة الأزمات في البلدان النامية والإصلاحات التي يشترطها تدخل ضمن إشكالية مساعي تفكيك الدولة التونسية عبر إعطاء أولوية للتقليص في عجز الميزانية وحجم  الدولة من خلال تخصيص المؤسسات العمومية والتأكيد على التقليص من النفقات أكثر من التأكيد على زيادة الموارد العمومية والتفريق بين السياسة العمومية والسياسة النقدية. 

ويرى البدوي أنّ استقلالية البنك المركزي جاءت ضمن مسار عام يهدف إلى تفكيك مؤسسات الدولة وفتح المجال أكثر إلى تعميق العلاقات السلعية والإعلاء من حجم السوق ودور القطاع الخاص، وهو ما يستدعي النظر إلى استقلالية البنك المركزي خارج هذا التوجه. 

تجارب ناجحة غير قائمة على استقلالية البنك المركزي 

وحسب الخبير الاقتصادي عبد الجليل البدوي فإنّ الاطلاع على التجارب الناجحة في الدول النامية لم تقم على استقلالية البنك المركزي بل بالعكس قامت على دولة قوية ماسكة بجميع السياسات العمومية سواء كانت السياسات المالية أو النقدية أو الميزانية والاجتماعية على غرار كوريا الجنوبية وتايوان وتايلندا وماليزيا والفيتنام التي لا تعتمد دغمائية في مستوى استقلالية البنك المركزي. 

الاستقلالية ومسألة الديمقراطية 

وتطرح مسألة استقلالية البنك المركزي وفق عبد الجليل البدوي، تساؤلات حول الديمقراطية، متسائلا في هذا الصدد "كيف يمكن للسلطة منتخبة على أساس برنامج لا تملك سلطة في مستوى السياسة النقدية تحت شعار الاستقلالية؟.. كيف ستنجح وتطبق برامجها التي تم على أساسها انتخابها؟".

"هذه الاستقلالية مبدأ مغشوش يهدف إلى ضرب كل تمشي إرادي في الميدان التنموي عبر تفكيك الدولة ومؤسساتها وضمن هذا التمشي لم يعد هناك تنسيق في مستوى إعداد الميزانية وبين السياسة النقدية.. إذ تنص الميزانية على إجراءات هدفها إنعاش الاقتصاد في حين تهدف السياسات النقدية إلى انكماش الدورة الاقتصادية عبر التضييق على القروض والزيادة في سعر الفائدة وهو وضع لا يستقيم ولا معنى له وهذا لا يعني فتح المجال لاستعمال السياسة النقدية بصفة عشوائية بإمكانها الإضرار بالاستقرار عبر خلق ضغوطات ملغمة"، يختم عبد الجليل البدوي تصريحه لموزاييك. 

ضرورة الإبقاء على الاستقلالية ولكن..

وحسب الخبير الاقتصادي معز حديدان، فإنّه من الضروري الإبقاء على استقلالية البنك المركزي، لكن مع ضرورة التوجّه نحو تغيير السياسات النقدية في تونس وهذا الأمر ممكن خصوصا وأن محافظ البنك المركزي الجديد فتحي النوري رجل حوار وبإمكانه أن يخلق تنسيقا بين السياسة النقدية والسياسة الاقتصادية لتكوين أهداف مشتركة. 

ويرى حديدان أنّ فتح أيّ محافظ بنك مركزي المجال للدولة للحصول متى شاءت على تمويلات من البنك المركزي يجعل مسألة التوفيق في مستوى مكافحة التضخم شبه مستحيلة .

ويشار إلى أنّ البرلمان صادق بتاريخ الثلاثاء 6 فيفري 2024 على مشروع قانون ترخيص يسمح للبنك المركزي بتمويل الحكومة بشكل مباشر بقيمة سبعة مليارات دينار (2.25 مليار دولار) دون أي فوائد وذلك بهدف سداد الديون الخارجية، بما فيها 850 مليون يورو مستحقة في 16 فيفري الجاري.

وكان رئيس الجمهورية قيس سعيد في آخر ظهور له قد انتقد استقلالية البنك المركزي، معتبرا إياه مؤسسة من مؤسسات الدولة يجب أن تساير التوجه العام للبلاد. واعتبر أن القانون عدد 90 لسنة 1958 المتعلق بإنشاء وتنظيم البنك المركزي التونسي يتضمن أحكام أفضل من القانون المنقح سنة 2016 حول الاستقلالية التي لا تعني الاستقلال عن الدولة وإنما يتطلب الأمر الانسجام مع سياسات الدولة وفق تعبيره.

* كريم وناس

share