الميديا التونسية في عصر ''ما بعد الحقيقة''..
ساهم تزايد انتشار الأخبار الكاذبة والمضللة عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتوظيف الدعاية السياسية كوسيلة لبلوغ السلطة والبقاء فيها، في تقسيم المجتمع التونسي إلى فئتين: فئة تقدمية ترفع لواء "الغرب والانفتاح" وفئة محافظة تدافع على "الهوية العربية الإسلامية"، وهو ما عزز الاختلافات حول التوجهات السياسية. حيث تقوم العديد من الصفحات الفايسبوكية بتوظيف الخداع والكذب والمغالطة وإثارة مشاعر الخوف والهلع من أجل الاستقطاب وتوجيه الرأي العام.
وقد انعكس تزايد الاستقطاب السياسي والإيديولوجي في المجتمع التونسي وتوظيف الأخبار الكاذبة والمضللة، على وسائل الإعلام، التي انخرطت بشكل إرادي ولا إرادي في هذا الاستقطاب وأصبحت جزء منه، ذلك أن بعض الصحفيين ووسائل الإعلام هرعوا إلى نصرة الأطراف السياسية التي يتفقون معها ويؤيدون توجّهها الإيديولوجي، ليصبح بذلك الالتزام بالمعايير المهنية والضوابط الأخلاقية أمراً بالغ التعقيد، وسط الكم الهائل من الأجواء العاطفية والانفعالية المشحونة وتبادل الاتهامات باللاوطنية والرجعية والتطرف وحملات الشيطنة والتخوين والتكفير التي يغذيها الاستقطاب الذي عزّز التحيز وقسم المجتمع التونسي وحتى الصحفيين أنفسهم، الأمر الذي جعل الأرضية ملاءمة أكثر من أي وقت مضى لصناعة الأخبار الكاذبة وترويجها وتصديقها دون اللجوء إلى فحص موضوعي للأخبار والاحتكام إلى حوار بناء.
ومن هنا نشأت حقبة ما بعد الحقيقة التي يعرفها موقع قاموس أكسفوردعلى أنها:" سياق يتراجع فيه تأثير الوقائع الموضوعية والحقائق والبيانات والمعلومات لصالح المعتقدات والرؤى الإيديولوجية والمشاعر والأهواء والقناعات الشخصية، ففي عصر ما بعد الحقيقة تختار الناس ما تريد من الوقائع لتبني عليها قناعات وآراء".
حيث فقدت الحقيقة قيمتها في المجال العمومي لصالح القناعات والمشاعر التي تغذيها الأخبار الزائفة خاصة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فخطاب الحقيقة لم يعد كافياً لإقناع الناس في ظل تأثرهم بخطابات رنانة تهز عواطفهم وتحرك داخلهم مشاعر الغضب والخوف واللامبالاة.
وفي سياق هذه الحقبة، يمكن للصحفي أو المتلقي على حد سواء تجاهل معلومات ثابتة وموثوقة ومضامين إعلامية ذات درجة عالية من المصداقية لفائدة القناعات الإيديولوجية والأهواء الذاتية وكل ما من شأنه أن يدعم وجهات نظرهم المسبقة تجاه مسائل معينة، نظراً لما يوفّره ذلك من راحة نفسية. فالمتلقي مثلاً يميل عادةً إلى تصديق خبر زائف يتعلق بشبهة فساد مالي لأحد خصوم الحزب السياسي الذي ينتمي له ويدعمه، على أن يصدق خبر حقيقياً -مخالفاً لرؤيته المسبقة- بشأن نجاح الحزب السياسي الذي يختلف معه في الإيفاء بأحد أبرز نقاط برنامجه الانتخابي.
كما أن ظاهرة الاستقطاب التي بات يعيش على وقعها المجتمع التونسي أثرت بشكل كبير على الممارسات المهنية للصحفيين التونسيين، حيث باتت المشاعر والأهواء والتوجّهات السياسية تؤثر على التغطية الصحفية خاصة للأحداث السياسية. وقد أدى ذلك إلى تراجع صحافة الجودة لصالح صحافة الإثارة، حيث انخرط العديد من الصحفيين إرادياً ولا إرادياً في عمليات التضليل ونشر كذب السياسيين ومغالطاتهم والترويج له، وذلك في سياق بحثهم المتواصل عن الإثارة والسبق الصحفي، فيما قام جزء آخر من الصحفيين بالاصطفاف وراء أطراف سياسية معينة على حساب أخرى، خدمةً لمصالحهم الشخصية وخضوعاً لتوجهاتهم الاديولوجية.
وبذلك صارت الميديا في تونس تنشر كذب السياسيين وما يقع تداوله عبر مواقع التواصل الاجتماعي، دون أن تقوم بتطبيق إحدى أهم قواعدها المهنية والأخلاقية وهي التحري فيها قبل نشرها، حتّى يتم تمكين المتلقي من معلومات دقيقة وذات مصداقية، وهو ما دفع إلى بروز بعض المنصات المتخصصة في صحافة التحري التي تهدف إلى إحياء الممارسات الصحفية الأصيلة وهو التحري الذي بات -وعلى بساطته نظرياً- من أهم التحديات التي تواجه الصحفيين الذين باتوا أمام معادلة صعبة: كيف يحافظون على موضوعيتهم وحيادهم ويلتزمون بقاعدة التحري وسط مناخ الاستقطاب الذي أسلفنا ذكره.
محمد علي العرفاوي