أكاديميون وباحثون: ''خطاب سعيّد الشعبوي أوقع البلاد في أزمة العنصرية''
اصطدم الخطاب الرسمي لرئيس الجمهورية قيس سعيد بتاريخ 21 فيفري 2023، الذي دعا فيه إلى اتّخاذ إجراءات عاجلة لوقف تدفق المهاجرين الأفارقة غير النظاميين، بتحذيرات متواترة من مغبّة تغذية خطاب التحريض والكراهية، وما قد ينجم عنه من تداعيات أمنية واجتماعية.
إثر هذا الخطاب احتدم النقاش حول طبيعة العلاقة بين الخطاب السياسي والخطاب المجتمعي في مواجهة ظاهرة الهجرة غير النظامية وعن مسافات الكراهية ومواطن التضامن، التي قد تهيّئها مثل هذه الخطابات.
وذهب خبراء في علم الاجتماع، إلى أنّه كان بإمكان رئيس الدولة تفادي هذا "الخطأ الاتّصالي"، وفق تقديرهم والتخلي عما وصفوه بـ "الشعبوية" والتوجّه نحو اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة لمعالجة هذا الملف دون فتح جدل وفضاءات خلاف أخرى تنضاف لمساحات التباين الكثر التي صارت تفرّق التونسيين أكثر مما تجمعهم.
واقتنصت كثير من المنظمات محليا ودوليا خطاب الرئيس، لتصمه بأنه خطاب "يحرّض على الكراهية "، وهو مادفع للبحث في عواقب هذا الخطاب الذي يطرح، حسب اللجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية والتعصّب، "مخاطر جسيمة على تماسك المجتمع الديمقراطي وحماية حقوق الانسان وسيادة القانون".
وتقول مفوّضة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان، ميشيل باشيليت، "علينا جميعنا أن نستنكر وندين بشكل علني جميع الرسائل، لاسيما الرسائل والخطابات السياسية، التي تنشر أفكارًا قائمة على التفوق العرقي أو الكراهية، أو تحرّض على العنصرية والتمييز العنصري وكره الأجانب وما يتصل بذلك من تعصب".
الخطاب السياسي وورطة الاتّصال
وقال الدكتور في علم الاجتماع والوزير الأسبق، مهدي المبروك، في تصريح لـ(وات) إنّ "رئيس الجمهورية ألقى، دون مبررات أو أسباب موضوعية، خطابا في مجلس الأمن القومي حول هجرة الأفارقة القادمين من جنوب الصحراء، كان بالإمكان أن يظل هذا الخطاب حبيس مجلس الأمن القومي وينقل فحواه وزير الداخلية أو وزير الخارجية ولكن الرئيس يريد بأسلوبه الشعبوي أن يكون اللاعب الوحيد والأوحد في المشهد السياسي".
ويتفق أستاذ علم الاجتماع بلعيد أولاد عبد الله مع ما ذهب إليه مهدي المبروك، إذ رأى أنه كان بالإمكان اعتماد مقاربة تواصلية أخرى لا تصدر عن رئيس الجمهورية بل عن وزير الداخلية مثلا أو اتخاذ الإجراءات القانونية لتسوية وضعية المهاجرين المعنيين، فحسب أولاد عبد الله "فٌهم من خطاب الرئيس أن تونس تتنصل من التزاماتها في مجال حقوق الانسان".
وشاب الخطاب السياسي لرئيس الجمهورية، حول هجرة الأفارقة جنوب الصحراء، مشكل تواصل على مستوى رئاسة الجمهورية، وبعض الأخطاء، حسب تفسير بلعيد أولاد عبد الله، فالمتلقي ذهب إلى ذهنه أول الأمر أن تونس تنتهك حقوق الأفارقة بينما المغزى الحقيقي للخطاب هو تنظيم الهجرة.
وقدّر المؤرخ والأستاذ الجامعي خالد عبيد، أن هذا الخطاب السياسي جاء متأخرا نظرا لاستفحال ظاهرة الهجرة غير النظامية في السنوات الأخيرة في تونس مقابل نظام سياسي لم يحرك ساكنا من أجل وقف تدفقاتها.
ويرى المتحدث أن هذا " الخطاب المتأخر"، جاء على وقع بعض التململ لدى جزء من التونسيين جراء ممارسات اعتبروها "غير مقبولة" لبعض المهاجرين في تونس.
وقال خالد عبيد في هذا الخصوص "بالإمكان تفهم حالة الهرج والمرج ولماذا انتهز بعض من التونسيين هذا الخطاب السياسي أو خطاب السلطة المتأخّر لفعل ما يريدون"، مؤكدا ضرورة التمسّك بالقانون واحترام حقوق الانسان والابتعاد عن كل ممارسة من شأنها أن يفهم منها أنها ممارسة أو شبهة عنصرية.
الخطاب المجتمعي يترجم فوريا الخطاب السياسي
خطاب الرئيس سريعا ما لقي آذانا صاغية لكنها فكت شفراته على مقاس قناعاتها الخاصة، فنتج عن أصحابها ممارسات عنيفة استهدفت المهاجرين، حسب تقارير تداولتها منظمات عدة ووفق طرح خبراء علم الاجتماع.
وقال خبير علم الاجتماع مهدي المبروك إنّ "الخطاب العنصري والمناهض للأجانب الذي صدر عن أعلى قمة في السلطة سمح ضمنيا بالاعتداءات المادية والرمزية العديدة التي طالت هؤلاء المهاجرين بل لم يسلم منها حتى الطلبة المسجلون بالجامعات التونسية"، لافتا إلى أن شبكات التواصل الاجتماعي، أيضا "طفحت بالشتيمة العنصرية وخطاب اعتداءات بشعة على المهاجرين".
من جانبه بيّن أستاذ علم الاجتماع بلعيد أولاد عبد الله أنه رغم انتهاز بعض المواطنين لغة هذا الخطاب ليشرعوا لأنفسهم انتهاك حرمة بعض المهاجرين من افريقيا جنوب الصحراء في تونس، إلاّ أن التونسيين في أغلبهم لم يتأثّروا به وهم ليسوا من الشعوب التي تعتدي على الآخر.
ورأى أنّ الخطاب المجتمعي انقسم بين مؤيد لهؤلاء المهاجرين بقطع النظر عن وضعياتهم القانونية ومن يدفع في اتجاه أن من حقّ الدولة أن تبسط القانون وتفرض على المهاجر المقيم بها احترام الضوابط القانونية والنظامية في المجتمع التونسي، مثله مثل المهاجر التونسي في الخارج.
ومن جهته طرح المؤرخ خالد عبيد، مقارنة بين ما تعرّض له المهاجرون الأفارقة من دول جنوب الصحراء، في تونس وما يتعرّض له المهاجرون غير النظاميين من تمييز ومن خطاب كراهية مازال موجودا حتىّ الآن في أوروبا، قائلا "من باب أولى وأحرى ألا يصبح الضحية (التونسيون) جلادا".
أزمة مجانية
قد تكون أسباب هجرة أفارقة جنوب الصحراء إلى تونس بعيدة تماما عن فكرة تغيير البنية الديٍّمغرافية لتونس، وفق مخطّط مسبق. ويرى مهدي المبروك أن "الرئيس جانب الصواب بهذ الخطاب"، إذ أن الهجرة غير النظامية ظاهرة ما فتئت تستفحل منذ عقود، وتتفاقم تدفقاتها من البشر لأسباب موضوعية كالفقر والتهميش والبطالة التي تعصف ببلدان افريقية عديدة ومنها تونس التي يغادرها سنويا عشرات آلاف الشبان باتجاه إيطاليا.
واعتبر المبروك أن القادمين من بلدان افريقيا ما وراء الصحراء يستعملون الأراضي التونسية عادة للعبور، لكن مع تشدد السياسيات الهجرية الأوروبية ومشاركة تونس في جهود "مكافحة الهجرة السرية" أصبح مكوثهم بأراضيها يطول نسبيا.
وقال "ارتفع عدد هؤلاء المهاجرين بسبب اندلاع عدة حروب أهلية في بلدانهم وتفاقم تأثيرات التغيرات المناخية الحادة أيضا وهذا يتناقض مع نظرية المؤامرة".
ونفى تماما فكرة محاولة تغيير التركيبة الديمغرافية للبلاد التونسية، متابعا بالقول إن "عدد المهاجرين على اختلافهم في تونس لا يتجاوز حسب تقديرات المعهد الوطني للإحصاء والمرصد الوطني للهجرة، 70 ألف شخص وهو عدد ضئيل جدا لا يستطيع أن يغير هذه التركيبة".
ودعا الجامعي خالد عبيد من ناحيته إلى ضرورة تنقية الأجواء وترك معالجة مسألة الهجرة غير النظامية للسلطات المختصّة التي يجب أن تقوم بها في كنف الشفافية وتوضيح عدد المهاجرين غير النظاميين وتطبيق القانون بقطع النظر إن كانوا من افريقيا أو آسيا أو من أي مكان آخر.
وكان رئيس الجمهورية قيس سعيد أشار في خطابه إلى وجود "ترتيب إجرامي تمّ إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس وأن هناك جهات تلقت أموالاً طائلة بعد سنة 2011 من أجل توطين المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء في تونس، وأن هذه الموجات المتعاقبة من الهجرة غير النظامية الهدف غير المعلن منها هو اعتبار تونس دولة إفريقية فقط ولا انتماء لها للأمتين العربية والإسلامية".
وشدّد سعيد على "ضرورة وضع حد بسرعة لهذه الظاهرة خاصة وأن جحافل المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء ما تزال مستمرة مع ما تؤدي إليه من عنف وجرائم وممارسات غير مقبولة فضلا عن أنها مجرّمة قانونا".
وكالة تونس إفريقيا للأنباء