فرنسا في مفترق طرق.. زلزال سياسي وأزمة اقتصادية تُهدد البلاد
في تطور غير مسبوق منذ عام 1962، شهدت فرنسا زلزالًا سياسيًا الأربعاء، حيث حجب البرلمان الفرنسي الثقة عن الحكومة بعد أقل من ثلاثة أشهر على تشكيلها. جاء هذا القرار بعد نقاش حاد استمر لأكثر من ثلاث ساعات، انتهى بموافقة 331 نائبًا على مذكرة حجب الثقة، متجاوزة النصاب اللازم البالغ 289 صوتًا.
هذا التصويت التاريخي يعكس عمق الانقسامات السياسية والتحديات الاقتصادية التي تواجه البلاد.
كيف وصلت فرنسا إلى هذا المشهد غير المسبوق؟
أزمة سياسية متصاعدة
بدأت الأزمة عندما قرر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، حلّ الجمعية الوطنية في خطوة مفاجئة بعد خسارة أغلبيته البرلمانية في الانتخابات الأخيرة. وجاءت الانتخابات المبكرة لتفرز برلمانًا مقسمًا بشكل حاد بين ثلاث كتل رئيسية: تحالف اليسار، معسكر ماكرون، وأقصى اليمين، دون أي طرف يمتلك الأغلبية المطلقة.
حكومة ميشال بارنييه، التي تشكلت على عجل مطلع سبتمبر الماضي من تحالف بين اليمين والوسط، واجهت صعوبة في تمرير سياساتها، خاصة فيما يتعلق بالميزانية. ومع تصاعد الخلافات السياسية، بات سقوط الحكومة مسألة وقت.
التحالفات المعارضة تقود الحراك
ساهمت الانقسامات داخل البرلمان في إسقاط الحكومة، حيث صوت نواب من اليسار وأقصى اليمين لدعم مذكرة حجب الثقة.
حزب "فرنسا الأبية" اليساري الراديكالي اعتبر سقوط الحكومة "انتصارًا تاريخيًا"، مطالبًا الرئيس ماكرون بتقديم استقالته وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة.
على الجانب الآخر، اعتمدت زعيمة اليمين المتطرف، مارين لوبان، موقفًا أقل تصعيدًا، مؤكدة أنها مستعدة للتعاون مع الحكومة المقبلة لإعداد ميزانية جديدة تُرضي جميع الأطراف، لكنها رفضت المطالبة باستقالة ماكرون.
التحديات الاقتصادية وتأثيرها على الأزمة
ارتفاع الديون وتكاليف الاقتراض
الأزمة السياسية تزامنت مع تحديات اقتصادية كبيرة. إذ حذّر رئيس الوزراء، ميشال بارنييه، قبل التصويت على الثقة، من أن فرنسا مهددة بـ"عاصفة مالية" إذا لم يتم تمرير ميزانية عام 2025.
وأوضح أن البلاد تدفع نحو 60 مليار يورو سنويًا كخدمة للدين، وهو مبلغ يفوق ميزانيات قطاعات أساسية مثل الدفاع والتعليم العالي.
الأوضاع المالية المضطربة دفعت إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض على السندات السيادية الفرنسية إلى أعلى مستوياتها منذ 12 عامًا، ما يعكس قلق المستثمرين من انهيار الثقة في السوق الفرنسية.
تأثير على القطاعات الحيوية
كما تأثر قطاع السياحة، الذي يشكل أكثر من 8% من الناتج المحلي الإجمالي الفرنسي، بتداعيات الأزمة. شهدت المدن الكبرى تراجعًا في الحجوزات بنسبة تتراوح بين 15% و20%، ما أثر بشكل كبير على الفنادق والمطاعم ووسائل النقل. في الوقت نفسه، ارتفعت تكاليف التشغيل للشركات نتيجة الإضرابات المستمرة، وزاد الإنفاق الحكومي لتعويض الخسائر، ما أثقل كاهل الموازنة العامة بمليارات اليوروهات.
تتابع الأسواق المالية الدولية التطورات في فرنسا بحذر. تقرير صادر عن صحيفة "فايننشال تايمز" أشار إلى أن التوترات السياسية في البلاد تزيد من المخاوف بشأن استقرار منطقة اليورو بأكملها.
استقر اليورو عند 1.052 مقابل الدولار بعد التصويت، لكن محللين يتوقعون تدهورًا أكبر إذا استمرت الأزمة.
علاوة على ذلك، هناك مخاوف من انخفاض تدفقات الاستثمارات الأجنبية إلى فرنسا، مع تراجع ثقة المستثمرين الذين يرون أن التوترات السياسية طويلة الأمد تجعل السوق الفرنسية أقل جاذبية.
افتتحت مؤشرات الأسهم الأوروبية الرئيسية جلسة تداول يوم الخميس على استقرار، حيث سجلت تحركات طفيفة في ظل حالة من عدم اليقين الشديد التي تسيطر على معنويات المستثمرين. تأتي هذه الأجواء بعد الإعلان عن إقالة رئيس الوزراء الفرنسي ميشيل بارنييه، وذلك عقب أسابيع من الاضطرابات السياسية في ألمانيا.
وعلى صعيد الأداء، كانت شركة سافران الفرنسية من بين الأسوأ أداءً بتراجع بلغ 4.81%، تلتها شركة ميلروز إندستريز البريطانية التي انخفضت بنسبة 1.5%.
في المقابل، سجلت الأسهم القيادية أداءً إيجابيًا، حيث ارتفع سهم شركة Bpost الفرنسية بنسبة 4.5%، تلاه سهم بنك "سوسيتيه جنرال" الفرنسي بزيادة قدرها 3%.
كما انخفض مؤشر كاك 40 CAC الفرنسي 0.1% ليسجل 7,298.06 نقطة، وهو أحد أهم مؤشرات بورصة باريس لأكبر أربعين شركة فرنسية.
المؤشر يدار من قبل بورصة يورونكست باريس (بورصة باريس سابقًا)
على أساس سنوي، وفقًا للتقديرات الأولية التي أُجريت في نهاية الشهر، من المتوقع أن ترتفع أسعار الاستهلاك بنسبة 1.3٪ في نوفمبر 2024، بعد ارتفاع بنسبة 1.2٪ في أكتوبر.
يعود هذا الاستقرار النسبي في معدل التضخم إلى تباطؤ أسعار المواد الغذائية، والذي قابله تسارع في أسعار الخدمات وتراجع أقل حدة في أسعار الطاقة. ومن المتوقع أن تسجل أسعار المنتجات المصنعة والتبغ نفس وتيرة النمو السنوية المسجلة في الشهر السابق.
ارتفاع معدلات التضخم
شهدت فرنسا ارتفاعًا في معدلات التضخم خلال شهر نوفمبر، ولكن بوتيرة أقل مما كان متوقعًا، مما يعكس تراجع ثقة المستهلكين في البلاد. ورغم ذلك، لا يزال التضخم أقل من هدف البنك المركزي الأوروبي البالغ 2%.
ووفقًا لبيانات صادرة عن مكتب الإحصاء الفرنسي "إينسي"، بلغ معدل التضخم السنوي 1.7% في ثاني أكبر اقتصاد أوروبي، مقارنةً بتوقعات الخبراء الذين استطلعت وكالة "بلومبرغ" آراءهم بارتفاع نسبته إلى 1.8%.
وأظهرت البيانات تسارعًا طفيفًا في أسعار الخدمات التي ارتفعت بنسبة 2.5%، بينما استمرت أسعار الطاقة في الانخفاض ولكن بوتيرة أبطأ. كما سجل شهر أكتوبر تراجعًا غير متوقع في إنفاق المستهلكين للمرة الأولى منذ جوان ، حيث انخفض الإنفاق على السلع المصنعة والطاقة بنسبة 0.4%، في حين كانت التوقعات تشير إلى استقرار النسبة مقارنة بشهر سبتمبر.
في الوقت ذاته، انخفضت ثقة المستهلكين الفرنسيين في نوفمبر إلى أدنى مستوياتها منذ جوان الماضي، متأثرة بعدم الاستقرار السياسي الناجم عن قرار الرئيس إيمانويل ماكرون بحل البرلمان. وبقيت مستويات الثقة أقل من متوسطها التاريخي على المدى الطويل.
وعلى الرغم من ذلك، أشار مكتب الإحصاء إلى أن الناتج المحلي الإجمالي لفرنسا سجل نموًا بنسبة 0.4% في الربع الثالث من العام.
السيناريوهات المستقبلية
مع سقوط الحكومة، يتعين على الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي تراجعت شعبيته بشكل حاد، اختيار رئيس وزراء جديد قادر على تشكيل حكومة تحظى بثقة البرلمان.
في خطابه المنتظر للشعب الفرنسي، سيتعين على ماكرون تقديم رؤية واضحة لكيفية الخروج من الأزمة السياسية والاقتصادية التي تعصف بالبلاد.
في حين يرى البعض أن الأزمة الحالية تمثل تهديدًا لاستقرار فرنسا السياسي والاقتصادي، ويرى آخرون أنها فرصة لإعادة تشكيل المشهد السياسي والاقتصادي بطرق جديدة، فيما يستغل بعض المستثمرين تراجع أسعار الأصول في السوق الفرنسية، متوقعين عودة الاستقرار على المدى الطويل.
*صلاح الدين كريمي