حرب تونس على الإرهاب متواصلة.. لكن متى نعالج أسباب الظّاهرة ؟
لعلع صوت الرّصاص مرّة أخرى في مدينة القصرين، في شهر نوفمبر من سنة 2018، كزائر تعوّد على قطع صمت ليلها الهادئ، لمرّات كثيرة، في العشرية المنقضية. وكان ضحيّة الإرهاب، في تلك المرّة، رمزي سايحي، شابّ ثلاثيني، باغتته رصاصة على مستوى الوجه، دون سابق إعلام، في طريق عودته إلى المنزل. ما أحاله على مسار علاج عسير، متعثّر، ومتواصل إلى اليوم.
رمزي، النّاجي بأعجوبة من موت داهمه من الجبال القريبة لمدينة القصرين، لا يزال يعاني من مخلّفات عملية إرهابيّة استهدفه رصاصها، بعد أكثر من 3 سنوات من الحادثة.
يستحضر، بوجه شاحب وبملامح حزينة كأنّها أرض ناجية من محرقة حرب ألمّت بها في غفلة منها، ومثل من يحفر بأصابعه الهشّة في دفاتر ذاكرة متصلبة، مسار حياته بعد تلك العملية، يقول بصوت لا يكاد يسمع: "حياتي تغيّرت كثيراً، وانقلبت رأساً على عقب، بعد أن وُجّهت لي رصاصة من كلاشنيكوف إرهابيّ، وسكنت وجهي على مستوى الفكّ... وقتها تمنيّتُ الحياة ما أمكن. لكنّني اليوم، لو أعيد المشهد نفسه أمامي، لطلبت من تلك الرصاصة العشوائية قتلي، حتى تنتهي قصتي دون تلك الأضرار، المعنوية والنّفسيّة والمادية، التي أصابتني، بعدها..."، هكذا افتتح ضحية الإرهاب حديثه لموزاييك.
رمزي كان قد أجرى ثماني عمليات جراحية على فكه، وقُطعت أجرته لأشهر، بسبب الإصابة التي أجبرته على الراحة الوجوبيّة، وتكبّد بمفرده عناء النقل والعلاج، وبات يعاني من أضرار ماديّة وجسدية ومتلازمات نفسية وضرر معنوي يتكرّر بصفة يوميّة، خصوصاً بعد انسداد آفاق علاجه في الخارج، نتيجة الإهمال الممارس عليه، بسبب رصاصة إرهاب اعترضت طريق عودته نحو منزله.
ورمزي ليس إلّا عيّنة لضحايا يعدّون بالمئات ممّن غيّرت حوادث الإرهاب حياتهم إلى أقصى النقيض، من عوائل شهداء أمنيين وعسكريّين، أو أقارب رعاة ذبحوا في الجبال والقرى، ومن أبرياء عزّل فقدوا أطرافهم بسبب ألغام غُرست في سفوحها وأحشائها، وبين ثناياها، كما سكنها الإرهاب الأسود منذ أكثر من عِقد زمنيّ.
ظاهرة معولمة أصابت تونس في العشرية الأخيرة، فعمّقت من مآسيها، ممّا يطرح أمامنا سبل الخوض في تفكيكها، لمحاولة الإقتراب من طرح علميّ شامل لمكافحة التطرّف العنيف بصفة أوسع.
"الإرهابيّ ليس إرهابيّاً بالفطرة":
و في هذا السياق يرى الباحث في علم الاجتماع معاذ بن نصير، في تصريحه لموزاييك، أنّ "الفرد الإرهابي لا يولد بالضرورة إرهابياً، إنّما يصبح كذلك بفعل عوامل ديمغرافية وأنثربولوجية واجتماعية وسياسية ودينية مختلفة، فالفعل الارهابي هو فعل عنيف بالأساس يفرزه الفرد خاصة إذا وُجد صلب فضاء يصعب فيه التأقلم إمّا نفسيّا أو اجتماعيّا أو ثقافيّا أو ماديّا"، مفسّراً ذلك على أنّ الاستعداد الشخصي البيولوجي للسلوك العنيف موروث خاصة بمجتمعاتنا، حسب تصريحه.
كما يؤكد بن نصير على أن العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية والأخلاقية والدينية تلعب الدّور الأساسيّ في صنع وتكريس السلوك العنيف لدى الفرد والجماعات. ويشدّد على أن "العنف والإرهاب هما صنيعة المجتمع المريض واللاّ متجانس، وهو نتيجة السلطة القمعية الجائرة (تجلّت بُعيد الثورات العربية في تنامي ردة الفعل العكسية) والعقائد الدينية السقيمة التي تستمر داخل المجتمعات المتخلفة والبدائية على مستوى العلاقات الاجتماعية"، وفق تعبيره.
وأشار المختص في علم الاجتماع إلى أن نظرية بورديو، عالم الاجتماع الفرنسي، حول إعادة الانتاج الثقافي، تعطي أثرها حول ظاهرة التطرّف العنيف، من خلال إعادة إنتاج الفرد للعنف الذي يرثه من أسرته. فالعائلة التي تنشئ أولادها على العدوانية والتسلط والقمع وعلاقات السلطة الأبوية التي تخلق أشخاصاً يميلون إلى التسلط والقمع والتغلّب، أو إلى الخضوع والامتثال والعجز والاتّكال، تخلق ضرورةً فرداً عنيفاً.
وقال بن نصير "حتّى المدرسة الكلاسيكية التي لم تواكب التحولات المجتمعية، ساعدت بطريقة أو بأخرى في تنامي ظاهرة الارهاب، باعتمادها على منهجية الحفظ والتلقين، وتخضع لأيديولوجيا السلطة، وتزرع في المتعلّم قيم المجتمع التقليدي، فتقتل فيه روح الإبداع والتفرد والعقل النقدي وقيم الحرية والمساواة والتسامح والحوار."
واعتبر أن المسؤولية أيضا يتحمّلها جزء من المؤسسة الدينية التي تطغى على المؤسسات الثقافية والمدنية بخطابها الرافض لقيم الحداثة وروح العصر بفعل الاستعمار والتحدي الحضاري الذي تعرضت له هذه المجتمعات، والذي يُترجم ذاته بخطاب كراهية يستبطن العنف والعدوان تجاه الآخر المختلف؛ اجتماعياً أو إثنياً أو دينياً، تحت شعارات الخصوصية الثقافية أو الدينية أو القومية.
وعرّج على مسؤوليّة السلطة السياسية التي تقوم على علاقات القوة والغلبة والقهر والإكراه وغياب العدالة والمساواة بحقوق المواطنة، ممّا يشكل منظومة فكرية ثقافية متكاملة، في توفير الشروط المثالية لإنتاج السلوك العنيف وشخصية الإرهابي.
يختم الباحث في علم الاجتماع قراءته بالقول "إن معالجة ظاهرة الارهاب ليست فقط أمنية، بل هي معالجة شمولية تقتضي تظاهر جميع الجهود وجميع الأطراف المجتمعية والمؤسساتية من العائلة والمدرسة والشارع والدين والأمن".
"ابتعدوا عن مشاهدة التلفاز، قاطعوا وسائل التواصل الإجتماعيّ... تحدّثوا..."
من جانب آخر، فسّرت الإخصائيّة في علم النّفس هدى الصغيّر، جذور الظاهرة الإرهابيّة في تونس، على أنها نتيجة حتميّة لحالة الإحباط المنتشرة، نتيجة تفكك "نواة الأسرة" والانقطاع المبكّر عن التعليم، والانبهار المبالغ فيه بما تنتجه وسائل الإعلام من أعمال عنف، مع سلبيّة دور المدرسة التي تدنت مردوديتها، بسبب غياب الإمكانيات القادرة على الارتقاء بها؛ بل باتت ساحة للعنف، بدورها، في مناسبات عديدة، وفق تعبيرها.
وشدّدت على دور العائلة التي فقدت مكانتها كحاضن للشخص منذ نعومة أظفاره، لفائد وسائط أخرى يصعب مراقبتها، في ظلّ تغيّرات المجتمع التي خلقت ما أشبه بالحواجز بين أفراد العائلة الواحدة، في استباق التغيرات التي قد تصيب الفرد، وعدم تلقّي تلك المؤشرات التي تدل على احتضان التطرّف العنيف له.
ودعت الصغيّر إلى إعادة إحياء سنّة الحوار داخل العائلة، لمدة ساعة في الأسبوع على الأقلّ، وضرورة مراقبة الأولياء لأطفالهم والإصغاء إليهم.
وختمت قائلة "توقفوا عن مشاهدة التلفاز، ابتعدوا عن وسائل التواصل الاجتماعي، وفليقم كل منا بدوره في مجاله، لحماية المجتمع من العنف والإرهاب والتطرّف العنيف".
"حين يصبح العنف قاعدة والقيمة استثناءً، يولد الإرهاب..."
بدوره، ركّز رئيس الجمعية التونسيّة للعمل من أجل أمن جمهوري عبد الله الساهلي، على دور المؤسسة والعائلة ثم المجتمع عامّة، في تغذية الإرهاب بطريقة أو بأخرى، وكذلك في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، في الوقت نفسه.
وانتقد العدد المرتفع من المنقطعين عن الدراسة سنويّاً في تونس، مع ابتعاد دور المدرسة والمعهد عن الجدل؛ ليتحول الفضاء التربويّ إلى نوع من أنواع التلقين، وهو ما خلق، بطريقة او بأخرى، مناخاً خصباً للجريمة والتطرّف، خصوصاً مع تآكل القيم المجتمعيّة والإنسانيّة؛ مثل التعايش السّلمي رغم الاختلاف، وابتعاد الفرد عن الثوابت الأساسية في مجتمعه، مما جعل العنف والانحراف السلوكي، قاعدة، والعكس استثناءً، عقب ضرب الشعوب العربيّة والإسلاميّة في عمقها، خصوصا عبر القنوات الإعلامية التكفيرية ووسائل التواصل الاجتماعي، حسب تعبيره.
وشدد على أنّ المقاربة الأمنية والعسكرية لمكافحة الإرهاب، هي آخر ما وجب القيام به، داعيًا إلى مقاربة شاملة لمعالجة هذه الظاهرة، ومكافحتها في المناهج التربوية، وفي السياسات الحكوميّة والاجتماعية، عبر نشر قواعد الإسلام المعتدل الذي يقدّس الحياة ويقبل الاختلاف ويرفض العنف، إعادة تثمين دور العائلة والمدرسة كقيمة فرديّة ومجتمعيّة.
الكرامة أيضاً، مضادّ حيويّ مهمّ لطرد الغلوّ:
جانب آخر مهم، تحدثت فيه سابقاً، قيادات أمنيّة وعسكريّة، في مجال مكافحة الإرهاب، لموزاييك، يتعلّق أساساً بالاستحقاق التنمويّ، خصوصاً عبر العناية بسكان المناطق الجبلية، الذين يعانون من قلة ذات اليد ومن الإرهاب، في ذات الوقت. ويكون ذلك عبر وضع سياسات عاجلة تمكنّهم من حقهم في العيش الكريم وبحقوقهم الإنسانية والدستورية في الكرامة والعلاج وغيرها. وهو ما سيقيهم من الولوج إلى الجبال ومن أخطارها، وهي التي تعتبر مصدر رزقهم الأوحد، وهو أيضاً ما سيمتّن علاقتهم، حتماً، مع دولتهم المدنيّة وأجهزتها المختلفة، ممّا يساهم في مقارعة سبل إستقطابهم لجماعات الخراب والتكفير...
علاج تجليّات ظاهرة ما، لا يقتلع جذورها...
إلى حدود ليلة البارحة الفاصلة، الأربعاء والخميس 10 فيفري 2022، يتواصل القصف المدفعيّ على مرتفعات الجبال التونسية، في استهداف لجماعات التكفير الهاربة بجبال القصرين... خبر بات روتينيّاً لتواصله في الزّمان والمكان والإنسيابيّة، لكنه يذكّرنا بين الفينة والأخرى، أن حرب تونس على الإرهاب لا تزال متواصلة، معركة كانت كلفتها باهضة على رمزي، الناجي من الموت بمعجزة، وغيره من شهداء، أحياء وأموات... حرب تذكّرنا بأن مقارعة الإرهاب تتطلب أيضاً رؤية شاملة وبوصلة واضحة، قوامها العائلة والمجتمع والسياسات الحكومية الشاملة لمقارعة الظّاهرة من جذورها، ومتنها تقديس قيمة وكرامة الإنسان وسلوكه وأمنه، حتّى لا يُكتفى بمعالجة نتائجها، فعلاج التجلّيات وحدها، لا يمكن أن يدحر ظاهرة ما ولا يقتلع جذورها...
برهان اليحياوي.