languageFrançais

قوة ناعمة زمن الذكاء الاصطناعي: التكنولوجيا في خدمة النفوذ الجيوسياسي

قوة ناعمة زمن الذكاء الاصطناعي: التكنولوجيا في خدمة النفوذ الجيوسياسي

في مشهد عالمي يتغيّر بسرعة غير مسبوقة بفعل الطفرات التكنولوجية المتلاحقة، تُطرح أسئلة ملحّة حول ماهية القوة في القرن الحادي والعشرين، هل ما تزال القوة العسكرية والاقتصادية هي العنصر الحاسم في ميزان النفوذ الدولي؟ أم أن معايير جديدة بدأت تُرسم على إيقاع الذكاء الاصطناعي والثورة الرقمية؟..

تحت هذا العنوان، تناولت الكاتبة والباحثة لويزا تومار، في مقال نشرته مجلة Diplomatic Courier، مفهوم "القوة الناعمة" بوصفه أحد أبرز مكونات التوازن الجيوسياسي في عصر الذكاء الاصطناعي، مشيرة إلى أن الصراع لم يعد يتمحور فقط حول من يملك أقوى سلاح أو أضخم اقتصاد، بل حول من يمتلك الرؤية الأخلاقية والتكنولوجية الأقدر على تشكيل العالم الجديد.

ما هي القوة الناعمة في العصر الرقمي؟

صاغ المفكر الأمريكي جوزيف ناي مصطلح "القوة الناعمة" في تسعينات القرن الماضي ليشير إلى القدرة على التأثير في الآخرين دون استخدام الإكراه أو العنف، وذلك من خلال الثقافة، القيم، والدبلوماسية العامة.

وفي العصر الرقمي، تتخذ هذه القوة أبعادًا جديدة، حيث تصبح البنى التحتية الرقمية، ونماذج الذكاء الاصطناعي، وأطر تنظيم البيانات أدوات رئيسية لبسط النفوذ الثقافي والسياسي.

تومار ترى أن "القوة الناعمة الرقمية" تتمثل اليوم في قدرة الدول على تصدير منظومات تكنولوجية تعكس قيمها السياسية والاجتماعية. فالدولة التي تهيمن على تصميم أنظمة الذكاء الاصطناعي، وتملي قواعد تشغيلها، هي من ترسم ملامح المستقبل الرقمي للعالم.

التكنولوجيا مقابل القيم؟

أبرز الأمثلة التي توردها الكاتبة تتعلق بعدد من الدول الآسيوية، فالصين مثلا التي تستخدم برامج مثل "الحزام والطريق الرقمي" لتوسيع نفوذها في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، من خلال تزويد الدول بشبكات اتصالات، أنظمة مراقبة، وحلول ذكاء اصطناعي بأسعار مغرية. 

غير أنّ هذه الأنظمة، وفقًا للباحثة، كثيرًا ما تتضمن خصائص تمكّن من الرقابة الجماعية وتقييد الحريات، مما يثير مخاوف جدية حول حقوق الإنسان واستقلالية الدول المتلقية.

هذه الاستراتيجية الصينية ليست جديدة، بل هي امتداد لما وصفه البعض بـ"استعمار البيانات"، حيث تصبح الدول التي تعتمد على بنى تحتية رقمية أجنبية رهينة لمزودي هذه التقنيات. 

وهنا، يتجلى وجه جديد من أشكال الهيمنة، ليس من خلال الأسلحة أو الجيوش، بل عبر الكود والذكاء الاصطناعي.

الغرب يواجه تحديًا أخلاقيًا

في المقابل، تواجه الدول الغربية تحديًا مزدوجًا كالحفاظ على تنافسيتها التكنولوجية، وفي الوقت ذاته الالتزام بقيم الشفافية وحقوق الإنسان.

كما تدعو الكاتبة إلى تطوير بدائل ديمقراطية لأنظمة الذكاء الاصطناعي، لا تعتمد فقط على السوق، بل تنطلق من رؤية أخلاقية وإنسانية للتكنولوجيا، تراعي الخصوصية وتدعم المجتمعات المحلية.

المعركة، حسب تومار، ليست فقط حول من يطور أسرع خوارزمية، بل حول من يستطيع إقناع العالم بأن المستقبل الرقمي الذي يقترحه هو الأكثر إنصافًا واستدامة.

موقع الدول النامية والعربية

تشكل هذه التحولات تحديًا كبيرًا للدول النامية، وعلى رأسها دول العالم العربي، التي كثيرًا ما تستورد التكنولوجيا دون إطار قانوني أو رؤية استراتيجية وطنية.

وفي غياب سياسات سيبرانية متقدمة، قد تجد هذه الدول نفسها خاضعة لنماذج رقمية خارجية تقيّد استقلالها السيادي وتُعرض بيانات مواطنيها للاختراق.

ففي تونس مثلًا، ورغم الجهود الحكومية في رقمنة الإدارة، لا تزال البنية القانونية لحماية المعطيات الشخصية هشة، كما أن غياب استثمارات حقيقية في البحث العلمي والتطوير يجعل البلاد عرضة للتبعية التكنولوجية.

نحو مقاربة متعدّدة الأبعاد

يرى خبراء أنّ على الدول العربية أن تنظر إلى الذكاء الاصطناعي ليس فقط كفرصة للتنمية، بل كملف سيادي يستوجب التخطيط الاستراتيجي طويل الأمد. 

ويتطلب ذلك استثمارًا في التعليم، تطوير الكفاءات، تبني تشريعات رقمية متقدمة، والانخراط في الحوار الدولي حول أخلاقيات التكنولوجيا.

وفي خضم كل ذلك، تظل "القوة الناعمة" في نسختها الرقمية أحد الأسلحة غير التقليدية في رسم ملامح عالم ما بعد الحداثة، حيث يصبح النفوذ مسألة سرديات، و"الهيمنة" مرهونة بمن يقنع الآخر بأن مستقبله في أيدٍ آمنة.

صلاح الدين كريمي