languageFrançais

لماذا انهارت المنظومة القيمية في تونس؟

لا يختلف عاقلان في تونس،أننا نعيش أزمة قيمية تتجلى تمظهراتها في ممارسات غالبية التونسيين يوميا وفي مختلف المجالات التي تهم الجوانب الحياتية والتفاعلات الاجتماعية حيث أصبحت اللهفة والبحث عن الربح السريع بأي طريقة كانت والغش والشماتة وإعلاء المصلحة الفردية والتحيل من أبرز السمات التي تطبع غالبية أفراد المجتمع التونسي. 

يُرجع الأستاذ المختص في علم الاجتماع معاذ بن نصير انهيار منظومة القيم لدى التونسيين لعدة أسباب ومتغيرات سوسيو ثقافية وحتى سياسية واجتماعية متداخلة في ظل ملاحظة مؤخرا ما أسماه بالانفلات الأخلاقي والقيمي والعيش في فوضى على مستوى المعاملات الاجتماعية والعلاقات الإنسانية. 

استراتيجيات فردية 

ويؤكد بن نصير أن هذا الانفلات يعود إلى عدة أسباب أبرزها ما يسمى باستراتيجيات الفرد في ظل الواقع السياسي والاقتصادي المتأزم الذي يجعل الفرد يبحث عن تكتيكات خاصة من أجل تجاوز هذه الأزمة، حيث أصبح شهر رمضان شهر المتاجرة بالآلام والمشاكل والمنظومة القيمية وفرصة للربح السريع من قبل بعض التجار بعد أن كان متعارفا على هذا الشهر على المستوى الأخلاقي أنه شهر المعاملات الحسنة والكلمة الطيبة. 

وأضاف المختص في علم الاجتماع أن غياب الدور الراعي للدولة يصبح الفرد في تموقع اجتماعي ومجالي يبحث عن نوع من استراتيجياته الخاصة من أجل العيش. 

وبيّن معاذ بن نصير أن المستوى السلوكي والتنشئة الإجتماعية تتخذ مسارات خاطئة في ظل تربية الناشئة وفق منظومة بالية ركائزها ثقافة الربح السريع والمحاباة و" تخديم المخ" بشكل سلبي. 

الفردانية وتغير تركيبة العائلة التونسية 

كما تطرق بن نصير إلى دور شبكات التواصل الاجتماعي التي كرست مبدأ الفردانية ومنطق عدم قبول الاخر وعدم احترام الإختلاف وهو ما يتم ملاحظته على مستوى تفاعلات التونسيين على هذه الشبكات التي تتضمن نسب مرتفعة من العنف الرمزي واللغوي والمعنوي وهو ما أثر على مستوى العلاقات الاجتماعية. 

وأكد بن نصير أن تغير تركيبة العائلة التونسية التي كانت ممتدة وموسعة سابقا والتي كان فيها نوع من قيم التضامن والتعاون لتصبح عائلة نواتية كل فرد فيها مستقل عن الآخر ويبحث عن مصلحته الشخصية والفردية وتراجع داخلها الدور التربوي للولي أدى إلى انهيار المنظومة القيمية. 

وبين نصير أن الدولة والمجتمع والعائلة والمدرسة كانوا في السابق مسؤولين عن المنظومة القيمية إلا أن دورهم تراجع وتركوا المجال فسيحا أمام شبكات التواصل الاجتماعي وكل المظاهر السلبية التي نلاحظها بشكل يومي. 


نعالج الأعراض ونتغافل عن الداء 

الدكتور في علم الاجتماع سامي نصر اعتبر أن أزمة الأزمات في تونس قيمية بالأساس والتي مست كل المجالات رياضية أو إعلامية أو تعليمية أو تجارية وغيرها. 

ويضيف نصر أننا نعالج في تونس اعراضا لمرض ونتغافل عن الداء الأصلي "لو لم نكن نعيش أزمة قيم فلن نواجه كل الظواهر السلبية المنتشرة في البلاد ".

 المتمعشون من الأزمة 

وأكد الدكتور سامي نصر أن كل دراسات علم الاجتماع السياسي خلصت إلى أن كل مجتمع يشهد ثورة وانتفاضة كبرى من المستحيل أن يجني الجيل الذي قام بها ثمار هذه الثورة بل بالعكس يجني مجموعة من الأزمات، اقتصادية كانت أو سياسية أو اجتماعية وبما فيها أزمة قيم. 

واعتبر نصر أن الأزمة القيمية التي تعيشها البلاد حاليا جزء منها طبيعي وحالة طبيعية بعد ما شهدته البلاد من اضطرابات وانتفاضات شعبية منذ 2011، لكن الإشكال يكمن في أن هذه الأزمة قد طالت وخلقت فئة يمكن تسميتها بالمتمعشون من الأزمة. 

وبيّن الدكتور في علم الاجتماع سامي نصر أن سر بقاء هذه الفئة المتمعشة من أزمة القيم في البلاد مرتبط بتواصلها مما خلق قوى فاعلة تخلق الأزمة وقوى فاعلة مهمتها المحافظة على هذه الأزمة. 

القيم وصناعة الشعوب ومداخل الاستعمار 

وأضاف سامي نصر: "تطورت القوى الفاعلة في البلاد فبعد أن كنا نتحدث عن تأثير الأكاديميين والسياسيين والاعلاميين على الرأي العام ومن ثمة الحديث عن مصطلح توجيه الرأي العام وبعدها صناعة الرأي العام أصبحنا نتحدث عن صناعة الشعوب ومسألة القيم تدخل ضمن مجال صناعة الشعوب"، مضيفا: "فرنسا عندما كانت تفكر في احتلال تونس، أولى خطواتها كانت دراسة قيم التونسيين حتى لا تكرر أخطاءها في الجزائر بعد أن ساهم تدخلها بالقوة في هذا البلد في تشبث الجزائريين بهويتهم وتمسكهم بقيمهم أكثر وكونت قبل احتلال تونس مكاتب مخابرات فرنسية مقرها الجزائر وكانت تقوم بدراسات سوسيولوجية وانثروبولجية حول الشعب التونسي..حيث درسوا الأولياء الصالحين ومختلف التصنيفات القبلية والأولياء الصالحين والأمثال الشعبية وخاصة قيم التونسيين ليستخلصوا على سبيل المثال أن قيمة الأرض وتشبث التونسيين بأراضيهم والمثل الشعبي " الي باع أرضو باع عرضو" متاتية أساسا من الانتماء القبلي في تلك الفترة والذي مثل نقطة قوة على مستوى منظومة القيم".

وبين الدكتور سامي نصر أن من أراد ارتكاب جريمة في حق الشعب التونسي درس قيمه في حين من يريد حكم تونس وقيادة الشعب التونسي والارتقاء به لا يعرف إلى الآن خصوصيات هذا الشعب ولا قيمه. 

مناعة اجتماعية 

وتحدث عن سامي نصر عن ضرورة خلق مناعة اجتماعية لمواجهة أزمة القيم والتي لخصها في عنصرين، الأول يتعلق بآليات الضبط الاجتماعي الذي ضربت عن طريق الاستهزاء بكل صاحب سلطة وتقزيمه والثاني المتعلق بمنظومة القيم التي فقدت. 

واعتبر  نصر أن اعلان رئاسة الجمهورية الحرب على الفساد، وهي مجهودات مشكورة، وإقتصارها على آلية القضاء وحدها غير كاف ويستوجب خلق قوة ردعية تاثيراتها اكبر من القضاء يسميها عالم الاجتماع دوركايم "بالاشمئزاز والاستنكار الاجتماعي " وهي آلية تضمن أسبقية الرفض المجتمعي على النص القانوني ليصبح الشخص الذي يخرق القيم الموجودة في المجتمع منبوذا اجتماعيا. 

وأكد بن نصر ضرورة أن تسبق محاربة الفساد في تونس وكل الظواهر التي دمرت بلادنا ،بالتوازي مع المسار القانوني والقضائي ،إعادة إحياء منظومة القيم الرافضة لتلك الممارسات حتى يكون الرفض المجتمعي داعما للنص القانوني. 

وتتالى تحليلات الخبراء والاقتصاديين والتوصيات كل ما تعلق الأمر بمسألة اقتصادية لكن هل يمكن اليوم إنقاذ البلاد اقتصاديا دون معالجة منظومة القيم..عندما نتحدث عن الاقتصاد هناك انتاج وانتاجية وهذه الانتاجية لا يمكن ضمانها في ظل ضرب قيمة العمل على سبيل المثال. 

وبحسب الدكتور سامي نصر فإن الحديث عن القيم لا يعني الرجعية والسقوط في الاخلاقوية والبحث عن الخروج من الأزمة التي تمر بها البلاد يستوجب وجود قيم مجتمعية توحد كل التونسيين بهدف تجاوز هذه الأزمة. 

كريم وناس